الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وأخرج عنه وعن عكرمة بن جرير أنهما قالا: كان الرجل يتحرج أن يأكل عند أحد من الناس بهذه الآية فنسخ ذلك بالآية التي في سورة النور (61) {وَلاَ على أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ} الآية، والقول الأول أقوى لأن ما أكل على وجه مكارم الأخلاق لا يكون أكلًا بالباطل، وقد أخرج ابن أبي حاتم والطبراني بسند صحيح عن ابن مسعود أنه قال في الآية: إنها محكمة ما نسخت ولا تنسخ إلى يوم القيامة، و{بَيْنِكُمْ} نصب على الظرفية، أو الحالية من (أموالكم) {إِلاَّ أَن تَكُونَ تجارة عَن تَرَاضٍ مّنْكُمْ} استثناء منقطع، ونقل أبو البقاء القول بالاتصال وضعفه، و{عَنْ} متعلقة بمحذوف وقع صفة لتجارة، و{مّنكُمْ} صفة {تَرَاضٍ} أي إلا أن تكون التجارة تجارة صادرة {عَن تَرَاضٍ} كائن {مّنكُمْ} أو إلا أن تكون الأموال أموال تجارة، والنصب قراءة أهل الكوفة، وقرأ الباقون بالرفع على أن كان تامة.وحاصل المعنى لا تقصدوا أكل الأموال بالباطل لكن اقصدوا كون أي وقوع تجارة عن تراض أو لا تأكلوا ذلك كذلك فإنه منهي عنه لكن وجود تجارة عن تراض غير منهي عنه، وتخصيصها بالذكر من بين سائر أسباب الملك لكونها أغلب وقوعًا وأوفق لذوي المروءات، وقد أخرج الأصبهاني عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أطيب الكسب كسب التجار الذين إذا حدثوا لم يكذبوا وإذا وعدوا لم يخلفوا وإذا ائتمنوا لم يخونوا وإذا اشتروا لم يذموا وإذا باعوا لم يمدحوا وإذا كان عليهم لم يمطلوا وإذا كان لهم لم يعسروا» وأخرج سعيد بن منصور عن نعيم بن عبد الرحمن الأزدي قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: تسعة أعشار الرزق في التجارة والعشر في المواشي.وجوز أن يراد بها انتقال المال من الغير بطريق شرعي سواء كان تجارة أو إرثًا أو هبة أو غير ذلك من استعمال الخاص وإرادة العام، وقيل: المقصود بالنهي المنع المبايعة عن صرف المال فيما لا يرضاه الله تعالى، وبالتجارة صرفه فيما يرضاه وهذا أبعد مما قبله، والمراد بالتراضي مراضاة المتبايعين بما تعاقدا عليه في حال وقت الإيجاب والقبول عندنا وعند الإمام مالك، وعند الشافعي حالة الافتراق عن مجلس العقد، وقيل: التراضي التخيير بعد البيع، أخرج عبد بن حميد عن أبي زرعة أنه باع فرسًا له فقال لصاحبه: اختر فخيره ثلاثًا، ثم قال له: خيرني فخيره ثلاثًا، ثم قال: سمعت أبا هريرة رضي الله تعالى عنه يقول: هذا البيع عن تراض.{وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ} أي لا يقتل بعضكم بعضًا، وعبر عن البعض المنهي عن قتلهم بالأنفس للمبالغة في الزجر، وقد ورد في الحديث: «المؤمنون كالنفس الواحد» وإلى هذا ذهب الحسن وعطاء والسدي والجبائي؛ وقيل: المعنى لا تهلكوا أنفسكم بارتكاب الآثام كأكل الأموال بالباطل وغيره من المعاصي التي تستحقون بها العقاب، وقيل: المراد به النهي عن قتل الإنسان نفسه في حال غضب أو ضجر، وحكي ذلك عن البلخي.وقيل: المعنى لا تخاطروا بنفوسكم في القتال فتقاتلوا من لا تطيقونه، وروي ذلك عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه، وقيل: المراد لا تتجروا في بلاد العدو فتفردوا بأنفسكم، وبه استدل مالك على كراهة التجارة إلى بلاد الحرب، وقيل: المعنى لا تلقوا بأنفسكم إلى التهلكة، وأيد بما أخرجه أحمد وأبو داود عن عمرو بن العاص قال: لما بعثني النبي صلى الله عليه وسلم عام ذات السلاسل احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك فتيممت ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر ذلك له فقال: يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب؟ قلت: نعم يا رسول الله إني احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك وذكرت قوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ} الآية فتيممت ثم صليت فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئًا، وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه: {وَلاَ تَقْتُلُواْ} بالتشديد والتكثير، ولا يخفى ما في الجمع بين التوصية بحفظ المال والوصية بحفظ النفس من الملائمة لما أن المال شقيق النفس من حيث إنه سبب لقوامها وتحصيل كمالاتها واستيفاء فضائلها، والملائمة بين النهيين على قول مالك أتم، وقدم النهي الأول لكثرة التعرض لما نهى عنه فيه.{إِنَّ الله كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} تعليل للنهي، والمعنى أنه تعالى لم يزل مبالغًا في الرحمة، ومن رحمته بكم نهيكم عن أكل الحرام وإهلاك الأنفس، وقيل: معناه إنه كان بكم يا أمة محمد رحيمًا إذ لم يكلفكم قتل الأنفس في التوبة كما كلف بني إسرائيل بذلك..{وَمَن يَفْعَلْ ذلك} أي قتل النفس فقط، أو هو وما قبله من أكل الأموال بالباطل، أو مجموع ما تقدم من المحرمات من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النساء كَرْهًا} [النساء: 19]، أو من أول السورة إلى هنا أقوال: روي الأول: منها عن عطاء ولعله الأظهر وما في ذلك من البعد إيذان بفظاعة قتل النفس وبعد منزلته في الفساد، وإفراد اسم الإشارة على تقدير تعدد المشار إليه باعتبار تأويله بما سبق.{عدوانا} أي إفراطًا في التجاوز عن الحد، وقرئ {عدوانا} بكسر العين {وَظُلْمًا} أي إيتاءًا بما لا يستحقه، وقيل: هما بمعنى فالعطف للتفسير، وقيل: أريد بالعدوان التعدي على الغير، وبالظلم الظلم على النفس بتعريضها للعقاب، وأيًا مّا كان فهما منصوبان على الحالية، أو على العلية، وقيل: وخرج بهما السهو والغلط والخطأ وما كان طريقه الاجتهاد في الأحكام {فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا} أي ندخله إياها ونحرقه بها، والجملة جواب الشرط.وقرئ {نصليه} بالتشديد، و{نصليه} بفتح النون من صلاه لغة كأصلاه، ويصليه بالياء التحتانية والضمير لله عز وجل، أو لذلك، والاسناد مجازى من باب الاسناد إلى السبب.{وَكَانَ ذلك} أي إصلاؤه النار يوم القيامة {عَلَى الله يَسِيرًا} هينًا لا يمنعه منه مانع ولا يدفعه عنه دافع ولا يشفع فيه إلا بإذنه شافع، وإظهار الاسم الجليل بطريق الالتفات لتربية المهابة وتأكيد استقلال الاعتراض التذييلي. اهـ.
.من فوائد ابن عاشور في الآيتين: قال رحمه الله:{يا أيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تأكلوا أموالكم بَيْنَكُمْ بالباطل إِلاَّ أَن تَكُونَ تجارة عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ}.استئناف من التشريع المقصود من هذه السورة.وعلامة الاستئناف افتتاحه بـ {يا أيّها الذين آمنوا}، ومناسبته لما قبله أنّ أحكام المواريث والنكاح اشتملت على أوامر بإيتاء ذي الحقّ في المال حقّه، كقوله: {وآتوا اليتامى أموالهم} [النساء: 2] وقوله: {فآتوهن أجورهن فريضة} [النساء: 24] وقوله: {فإن طبن لكم عن شيء منه نفسًا} [النساء: 4] الآية، فانتقل من ذلك إلى تشريع عامّ في الأموال والأنفس.وقد تقدّم أنّ الأكل مجاز في الانتفاع بالشيء انتفاعًا تامّا، لا يعود معه إلى الغير، فأكل الأموال هو الاستيلاء عليها بنية عدم إرجاعها لأربابها، وغالب هذا المعنى أن يكون استيلاء ظلم، وهو مجاز صار كالحقيقة.وقد يطلق على الانتفاع المأذون فيه كقوله تعالى: {فإن طبن لكم عن شيء منه نفسًا فكلوه هنيئًا مريئًا} [النساء: 4] وقوله: {ومن كان فقيرًا فليأكل بالمعروف} [النساء: 6]، ولذلك غلب تقييد المنهي عنه من ذلك بقيد {بالباطل} ونحوه.والضمير المرفوع بـ {تأكلوا}، والضمير المضاف إليه أموال: راجعان إلى {الذين آمنوا}، وظاهر أنّ المرء لا يُنهى عن أكل مال نفسه، ولا يسمّى انتفاعه بماله أكلًا، فالمعنى: لا يأكل بعضهم مال بعض.والباطل ضدّ الحق، وهو ما لم يشرعه الله ولا كان عن إذن ربّه، والباء فيه للملابسة.والاستثناء في قوله: {إلا أن تكون تجارة} منقطع، لأنّ التجارة ليست من أكل الأموال بالباطل، فالمعنى: لكنْ كونُ التجارة غيرُ منهي عنه.وموقع المنقطع هنا بَيِّن جار على الطريقة العربية، إذ ليس يلزم في الاستدراك شمولُ الكلام السابق للشيء المستدرك ولا يفيدُ الاستدراكُ حصرًا، ولذلك فهو مقتضى الحال.ويجوز أن يجعل قيد {الباطل} في حالة الاستثناء مُلغى، فيكون استثناء من أكل الأموال ويكون متّصلًا، وهو يقتضي أن الاستثناء قد حصر إباحة أكل الأموال في التجارة، وليس كذلك، وأيامًا كان الاستثناء فتخصيص التجارة بالاستدراك أو بالاستثناء لأنّها أشدُّ أنواع أكل الأموال شَبَها بالباطل، إذ التبرّعات كلّها أكل أموال عن طيب نفس، والمعاوضات غير التجارات كذلك لأنّ أخذ كلا المتعاوِضين عوضًا عمّا بذَله للآخر مساويًا لقيمته في نظره يُطيَّب نفسَه.وأمّا التجارة فلأجْل ما فيها من أخذ المتصدّي للتجر ما لا زائدًا على قيمة ما بذله للمشتري قد تُشبه أكل المال بالباطل فلذلك خصّت بالاستدراك أو الاستثناء.وحكمة إباحة أكل المال الزائد فيها أنّ عليها مدار رواج السلع الحاجية والتحسينية، ولولا تصدّي التجّار وجلبُهم السلعَ لما وَجد صاحب الحاجة ما يسدّ حاجته عند الاحتياج.ويشير إلى هذا ما في الموطأ عن عمر بن الخطاب أنّه قال: في احتكار الطعام ولكنْ أيُّما جالب جلب على عَمُود كَبِدِه في الشتاء والصيف فذلك ضيفُ عُمَر فليبع كيف شاء ويمسك كيف شاء.وقرأ الجمهور: {إلا أن تكون تجارة} برفع تجارة على أنّه فاعل لكانَ مِن كان التامّة، أي تَقَعَ.وقرأه عاصم، وحمزة، والكسائي، وخلَف بنصب تجارة على أنّه خبر كان الناقصة، وتقدير اسمها: إلاّ أن تكون الأموال تجارة، أي أموال تجارة.وقوله: {عن تراض منكم} صفة لـ {تجارة}، و{عن} فيه للمجاوزة، أي صادرة عن التراضي وهو الرضا من الجانبين بما يدلّ عليه من لفظ أو عرف.وفي الآية ما يصلح أن يكون مستندًا لقول مالك من نفي خِيار المجلس: لأنّ الله جعل مناط الانعقاد هو التراضي، والتراضي يحصل عند التبايع بالإيجاب والقبول.وهذه الآية أصل عظيم في حرمة الأموال، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحلّ مالُ امرئ مسلم إلاّ عن طيب نَفس». وفي خطبة حجّة الوداع «إنَّ دماءكم وأموالكم عليكم حرام».وتقديم النهي عن أكل الأموال على النهي عن قتل الأنفس، مع أنّ الثاني أخطر، إمّا لأنّ مناسبة ما قبله أفْضت إلى النهي عن أكل الأموال فاستحقّ التقديم لذلك، وإمّا لأنّ المخاطبين كانوا قريبي عهد بالجاهلية، وكان أكل الأموال أسهل عليهم، وهم أشدّ استخفافًا به منهم بقتللِ الأنفس، لأنّه كان يقع في مواقع الضعف حيث لا يَدفع صاحبه عن نفسه كاليتيم والمرأةِ والزوجة.فآكِل أموال هؤلاء في مأمَن من التبِعات بخلاف قتل النفس، فإنّ تبعاته لا يسلم منها أحد، وإن بلغ من الشجاعة والعزّة في قومه كلّ مبلغ، ولا أمنع من كُلَيْب وائل، لأنّ القبائل ما كانت تهدر دماء قتلاها.قوله: {ولا تقتلوا أنفسكم} نهي عن أن يقتل الرجل غيرَه، فالضميراننِ فيه على التوزيع، إذ قد عُلم أنّ أحدًا لا يقتل نفسَه فيُنهى عن ذلك، وقَتْل الرجل نفسه داخل في النهي، لأنّ الله لم يبح للإنسان إتلاف نفسه كما أباح له صرف ماله، أمّا أن يكون المراد هنا خصوص النهي عن قتل المرء نفسَه فلا.وأمّا ما في مسند أبي داود: أنّ عَمرو بن العاص رضي الله عنه تيمّم في يوم شديد البَرْد ولم يغتسل، وذلك في غزوة ذات السلاسل وصلّى بالناس، وبلَغ ذلك رسولَ الله، فسأله وقال: يا رسول الله إنّ الله يقولُ: {ولا تقتلوا أنفسكم}، فلم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم فذلك من الاحتجاج بعموم ضمير {تقتلوا} دون خصوص السبب.وقوله: {ومن يفعل ذلك} أي المذكورَ: من أكل المال بالباطل والقتل.وقيل: الإشارة إلى مَا ذكر من قوله تعالى: {يأيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهًا} [النساء: 19] لأنّ ذلك كلّه لم يرد بعده وعيد، وورد وعيد قبله، قاله الطبري.وإنّما قيّده بالعدوان والظلم ليخرج أكل المال بوجه الحقّ، وقتلُ النفس كذلك، كقتل القاتل، وفي الحديث: «فإذا قالوها عصَمُوا منّي دماءَهم وأموالَهم إلاّ بحقِّها».والعدوان بضَمّ العين مصدر بوزن كفران، ويقال بكسر العين وهو التسلّط بشدّة، فقد يكون بظلم غالبًا، ويكون بحقّ، قال تعالى: {فلا عدوان إلا على الظالمين} [البقرة: 193] وعطف قوله: {وظلمًا} على {عدوانًا} من عطف الخاصّ على العامّ.و(سوف) حرف يدخل على المضارع فيمحّضه للزمن المستقبل، وهو مرادف للسين على الأصحّ، وقال بعض النحاة: (سوف) تدل على مستقبل بعيد وسمّاه: التسويف، وليس في الاستعمال ما يشهد لهذا، وقد تقدّم عند قوله: {وسيصلون سعيرًا} في هذه السورة [النساء: 10].و{نُصليه} نجعلُه صاليا أو محترقا، وقد مضى فعل صَلِي أيضًا، ووجهُ نصب {نارا} هنالك، والآية دلّت على كُلِّيَتَيْن من كليّات الشريعة: وهما حفظ الأموال، وحفظ الأنفس، من قسم المناسب الضروري. اهـ.
|